تشهد مناطق الهامش في المغرب تصعيدا ملحوظا في الاحتجاجات السلمية المطالبة بالتنمية والعدالة المجالية، في سياق تتزايد فيه الفجوات بين المركز والأطراف.
فبعد المسيرة الرمزية التي قادتها ساكنة آيت بوكماز في يوليوز الماضي نحو عمالة أزيلال، والتي حملت عنوان الكرامة والعدالة، انتقلت شعلة الاحتجاج إلى الجنوب الشرقي، لتصل إلى اقليم تنغير، حيث دعت ساكنة دوار تدفالت إلى مسيرة مماثلة احتجاجا على العطش وغياب الماء الصالح للشرب.
النداء الذي وجهته ساكنة تدفالت، وتوصلت جريدة”كيوسك أنفو” بنسخة منه٬يعكس عمق الأزمة بالمنطقة التي تعاني فيها الساكنة، منذ سنوات، من انقطاعات متكررة في التزود بالماء، دون أي تدخل ملموس من الجهات المعنية، مما اضطرها إلى الدعوة للتظاهر مشيا على الأقدام نحو مقر العمالة.
هذه الاحتجاجات لا تقتصر فقط على الماء، بل تعكس انسداد الأفق التنموي في مناطق لا تزال تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات الاساسية، ففي تدفالت كما في آيت بوكماز، لا يتعلق الأمر بمطلب معزول، بل بمنظومة مطالب ترتبط بالحق في العيش الكريم، وفي بيئة لائقة، وفي مؤسسات تستجيب لحاجات المواطن بدل ادارة صمته.
واللافت في تحركات الهامش الجديدة هو تزايد منسوب الوعي التنظيمي لدى السكان، حيث لم تعد الاحتجاجات مجرد ردة فعل، بل باتت تعبيرا منظما، هادئا، وسلميا، يحمل لغة واضحة ومطالب محددة، مما يعكس نضجا اجتماعيا يستحق الاصغاء، لا التجاهل.
وفي ظل هذا التصاعد، يبقى غياب الاستجابة الرسمية الجادة عنصرا مقلقا، علما أن استمرار تجاهل هذه التحركات لا يهدد فقط السلم الاجتماعي، بل يطرح سؤالا كبيرا حول جدية الدولة في تنزيل نموذج تنموي جديد، طالما تحدثت عنه، دون ان يصل صداه الى تدفالت وامثالها.
إن مسيرة تدفالت ليست سوى حلقة من حلقات غضب الهامش، الذي بدا يتكلم بلغته الخاصة، بلغة تعبر عن القهر والصبر في آن واحد، واذا استمر التجاهل، فإن هذه اللغة قد تتحول إلى صوت أعلى، يضع الجميع امام مسؤولية تاريخية: إما الانصات والتجاوب، أو تعميق الهوة بين المركز والهامش إلى حدود لا رجعة فيها.
يشار إلى أن الملك محمد السادس، في خطابه بمناسبة عيد العرش، يوم الثلاثاء الماضي، دعا إلى عدالة مجالية وإنصاف العالم القروي.
وخصص الملك محمد السادس حيزا مهما للحديث عن أوضاع العالم القروي والتفاوتات المجالية، وهو ما اعتبره متابعون تجسيدا مباشرا للمطالب التي رفعتها ساكنة المناطق المهمشة، ومن بينها احتجاجات آيت بوكماز الأخيرة، التي كشفت عن معاناة مستمرة مع ضعف البنيات التحتية وغياب الخدمات الأساسية.
وقال الملك محمد السادس إنه “تعرف جيدا أنني لن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات، لذا، ما فتئنا نولي أهمية خاصة للنهوض بالتنمية البشرية، وتعميم الحماية الاجتماعية، وتقديم الدعم المباشر للأسر التي تستحقه”.
وأضاف أن “نتائج الإحصاء العام للسكان 2024 أبانت عن مجموعة من التحولات الديمغرافية والاجتماعية والمجالية، التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، في إعداد وتنفيذ السياسات العمومية، وعلى سبيل المثال، فقد تم تسجيل تراجع كبير في مستوى الفقر متعدد الأبعاد، على الصعيد الوطني، من 11,9 في المائة سنة 2014، إلى 6,8 سنة 2024”.
وتابع: “كما تجاوز المغرب، هذه السنة، عتبة مؤشر التنمية البشرية، الذي يضعه في فئة الدول ذات “التنمية البشرية العالية”.
وسجل أنه “غير أنه مع الأسف، ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية، وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية، فلا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين”.
ولفت الانتباه إلى أنه “لقد حان الوقت لإحداث نقلة حقيقية، في التأهيل الشامل للمجالات الترابية، وتدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية، لذلك ندعو إلى الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية، إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة، هدفنا أن تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين، في جميع المناطق والجهات، دون تمييز أو إقصاء”.
وذكر أنه “لهذه الغاية، وجهنا الحكومة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية الترابية، يرتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة، ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية”.
وشدد على أنه “ينبغي أن تقوم هذه البرامج، على توحيد جهود مختلف الفاعلين، حول أولويات واضحة، ومشاريع ذات تأثير ملموس، تهم على وجه الخصوص، دعم التشغيل، عبر تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية، وتوفير مناخ ملائم للمبادرة والاستثمار المحلي؛ وتقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصة في مجالي التربية والتعليم، والرعاية الصحية، بما يصون كرامة المواطن، ويكرس العدالة المجالية؛ واعتماد تدبیر استباقي ومستدام للموارد المائية، في ظل تزايد حدة الإجهاد المائي وتغير المناخ، وإطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج، في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى، التي تعرفها البلاد”.